إثر تخرجه كطبيب من كلية الطب بجامعة بنغازي وعمله في الميدان الطبي لسنوات قليلة، انتقل الدكتور عبد الباسط بوحميده إلى جامعة توركو بفنلندا منذ عام 1997 حيث حصل على شهادة الدكتوراه في المجموعة البحثية “استشراف مستقبل السرطان” بقيادة البروفيسور يورو كولان، في قسم علم الأمراض. وقد ركزت أطروحته للدكتوراه على استخدام الخزعات الإبرية لاستخراج العلامات الخلوية الحيوية والمورفومترية (Morphometry) لتشخيص والتنبؤ بسرطان البروستاتا. وقد واصل بعد ذلك الدكتور بوحميدة نشاطه البحثي كأستاذ مشارك في علم الأورام التجريبي في كلية الطب، جامعة توركو، فنلندا إلى أن التحق بمركز التميز في أبحاث الجينوم الطبي بجامعة الملك عبد العزيز، جدة، المملكة العربية السعودية وفي نهاية عام 2008. وبمجرد التحاقه بالمركز، عمل بجد لتطوير مركز الحينوم في مجالات أبحاث السرطان الطبية والحيوية، وقد ساعده تميزه كباحث استراتيجي تطبيقي في بلورة رؤية بحثية متقدمة وإنجاز بحوث رائدة أسفرت عن نشر العديد من الأبحاث العلمية في المجلات العالمية المحكمة. كما عمل على تأسيس البنك الحيوي بمركز الجينوم، أحد المرافق الأساسية ودعامة رئيسية لأي مركز لبحوث طب الجينوم في المناهج البحثية الإختزالية. كما لعب دورا حيويا في تعزيز نشاط وحدة البنك الحيوي في مركز الجينوم عن طريق توثيق وتعزيز الاتصال بين البنك الحيوي والجراحين وعلماء الأمراض من المستشفيات المتعاونة في المنطقة. وبعد ترقيته من قبل المجلس الأكاديمي لجامعة الملك عبد العزيز إلى المرتبة الأكاديمية “أستاذ”، أوكلت للبروفيسور بوحميدة مهمة كبير باحثي المركز والمنسق العام للبرامج والمبادرات البحثية، كما كان الباحث الرئيس المشرف على إطلاق مشروع برنامج البنك الحيوي الوطني لمدة 5 سنوات، ليعتبر أول مبادرة ونموذج عمل نحو إنشاء بنك حيوي وطني سعودي ليكون المورد الرئيسي لعينات حيوية ذات جودة عالية للعلماء والباحثين في المجال الصحي لتحويل فرضياتهم إلى اكتشافات مهمة. وقد ساعدته خبرته بالطب الدقيق (Precision medicine) والمناهج البحثية الطبية حاليا، إلى تطوير نهج نقدي للمنظومات الطبية الإختزالية وفشلها الذريع في التعاطي مع الأمراض غير السارية وتسليعها لصحة الإنسان، والعجز أمام مشاكل البشرية العاجلة مثل البيئة والتغير المناخي، وتهميش الوقاية وتعزيز الصحة والعافية. وعليه، يسعى الأستاذ بوحميدة إلى إطلاق مشاريع بحثية إبتكارية مع ثلة من الباحثين وطنيا وإقليميا ودوليا من أجل الإهتمام بتعزيز عافية الأفراد والمجتمعات ووضع مبادئ بحثية ومنهجية أكثر قابلية للتطبيق على الصعيد العالمي، والتي ينصح بها بشدة لتمهيد الطريق نحو أبحاث العافية الشخصية، والتركيز على تعزيز العافية وديمومتها في المناهج البحثية والتعليمية أكثر من الإنشغال بتفرعات الأمراض واختلافها وتنوعها.
-
هل تعتقد بان هناك ازمة في المنهج العلمي للعلوم التطبيقية؟
-
- قبل أن نخوض في الإجابة عن هذا السؤال المحوري المتشعب، علينا أولا ان نتعرف على انواع المناهج العلمية المعمول به حاليا في حقول العلوم المختلفة. فهناك تقريبا ثلاثة أنواع من المناهج العلمية المستخدمة حاليا في البحث والتطوير في حقول المعرفة. أولها المنهج الاختزالي ((Reductionism، وثانيهما المنهج الشمولي الكلي (Holism) في البحث العلمي، وثالثهما المنهج الذي يجمع بين الاثنين معا، أي بين المنهج الاختزالي والمنهج الشمولي ((Hybridism إذا جاز التعبير، أي بمعنى المنهج المزاوج بين المنهجين الاختزالي والشمولي. فالمنهج الاختزالي ويسمى أيضا بالمنهج التحليلي التفكيكي(Analysis, to take apart) ، هو المنهج الذي يبدأ بدراسة الموضوع أو المشكلة أو القضية المراد فهمها إلى أجزاء صغيرة ثم يتم دراسة هذه الأجزاء بمعزل عن محيطها (الكل)، باعتبار ان مجموع الاجزاء يساوي الكل. فالمنهج قائم او يعتمد اساسا على المكونات الصغيرة المنفصلة عن بعضها البعض والمعزولة المكونة للكل، وهذا المنهج يذهب في مسار خطي حتمي واحد بحيث يربط ربطا وثيقا بين السبب والنتيجة (التأثير) أي بمعنى منهج يهتم بثنائية السبب والنتيجة (cause-effect)، وعادة ما يذهب في البحث في العمق ليصل إلى الاجزاء المتناهية في الصغر ((micro-level من أجل محاولة ايجاد سبب واحد لتأثير واحد أو نتيجة واحدة. وهذا المنهج ساكن بطبيعته، أي غير متحرك، يهتم أساسا بالسؤال التالي: كيف تكونت أو تركبت الظاهرة؟ أي يدرس شكل الظاهرة التشريحي التركيبي الصرف(structure) ، ولا يهتم بالوظيفة ( (function. ويؤدي المنهج الاختزالي في آخر المطاف الى التشظي والتفكك للظاهرة المراد دراستها. وهو منهج ملائم جدا لدراسة كل ما هو غير حي (non-living) ، فهذا المنهج مهم جدا لدراسة الظواهر الطبيعية غير الحية مثل علوم الأض، والمياه والبحار والمحيطات والجبال والتضاريس، وفصول السنة المختلفة، وعلوم الكيمياء والفيزياء، ودراسة ظاهرة الاحتباس الحراري وما ينتج عنه من مشاكل بيئية وغيرها. كما انه منهج مهم جدا في دراسة ما يتعلق بدراسة تشريح الانسان والاعضاء والانسجة والخلايا ليعمل على وصفها ورسمها دون الاهتمام بالجانب الوظيفي لها أي لا يهتم بدراسة علاقة هذه الخلايا والانسجة والأعضاء بعضها ببعض وظيفيا. وأخيرا هو منهج ينحو نحو التبسيط ويبتعد عن التعقيد. وفي المقابل، هناك المنهج الشمولي الكلي، ويعرف بالمنهج التوليفي أو التجميعي (Synthesis, to put together)، وهو عكس المنهج الاختزالي التفكيكي، فهذا المنهج يعتمد أساسا على تجميع الأجزاء الصغيرة للموضوع أو الظاهرة المراد دراستها، وربط الأجزاء بعضها ببعض في سياق غير خطي شبكي(Network) دوري مع الاهتمام بدراسة حلقات التغذية الاسترجاعية (feedback loops) التي تعمل على تشكيل الظاهرة على المستوى الكلي (macro-level) في نسق ديناميكي حركي تطوري مستهدفا الوصول إلى ربط أسباب عديدة لنتيجة واحدة أو تأثير واحد أو إلى ربط نتائج متعدده بتأثيرات متعدده. وهذا المنهج يهتم بدراسة الاوزان النسبية لتفاعل اجزاء الكل بعضها مع البعض، ومدى تفاعلها فيما بينها وبالتالي تأثيرها على المنظومة بأسرها فبدلاً من تفتيت المشكلة المعقدة إلى الأجزاء المكونة لها، يتفهم منظور النهج الشمولي الخصائص الكلية والمركبة للمشكلة، ويقيم أو يعالج المشكلة في سياق بيئتها. لذلك يرتكز منظور النهج الشمولي للأنظمة بالتأكيد على أنه لا يمكن تفسير الغابة من خلال دراسة اشجارها بشكل فردي. فهو بالضرورة يهتم بدراسة الوظيفة (function) ولا يهتم بدراسة الشكل(structure) . كما ان هذا المنهج غالبا ما يتناسب مع دراسة الكائنات الحية (living organisms) امتدادا من دراسة الكائنات الحية وحيدة الخلية وصولا الى دراسة الإنسان والحيوان والنبات، بالإضافة لملائمته لدراسة النظم المعقدة complex systems)) غير الحية، وما اكثرها في عالم اليوم وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة وشبكات التواصل الاجتماعي والروبوتات بالإضافة لدراسة الفضاء والكواكب والنجوم وتعاقب الليل والنهار، أي يساعد في فهم الظواهر الديناميكية ..إلخ. فالمنهج الشمولي يتناسب مع توليد وتصميم وابتكار الأفكار الجديدة لإيجاد حلول من خارج نطاق الصندوق للمشاكل المتعددة والمعقدة في محيطنا المعيشي اليومي. والجدير بالذكر هنا، بأن المنهج الشمولي يؤدي إلى التكامل ويعتمد بالضرورة على ما يعرف بالتفكير المنظومي (systems thinking) في العلوم باستخدام نماذج ومناهج وأطر متعددة التخصصات. أما المنهج العلمي الثالث هو المنهج الذي يزاوج بين المنهجين الاختزالي والكلي دون إهمال أحدهما، والمنهج الثالث في تصوري هو منهج حديث بدأ التطرق إليه والسير نحوه في العقود الأخيرة وخصوصا بعد انتشار وظهور مايعرف اليوم في عالم الطب بالأمراض غير السارية (غير المعدية) المزمنة، وتعرف ايضا بالأمراض المعقدة (complex diseases) – كأمراض القلب والأوعية الدموية، والسرطان، والأمراض التنفسية المزمنة، والسكري – التي لم تكن من بين الأسباب الرئيسية للوفاة مع نهاية القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين. علاوة على ذلك، فإن الأمراض غير المعدية لها اسباب معقدة وجذور لا تزال مبهمة ومتداخلة مع مضامين البيئة الطبيعية، وغير الطبيعية المبنية هندسيا، بالإضافة للظروف والسياقات الاجتماعية والاقتصادية للشعوب والدول. بعد هذه المقدمة السريعة في تسليط الضوء على مناهج البحث العلمي. دعنا نعود لأصل السؤال: هل هناك أزمة في المنهج العلمي للعلوم التطبيقية؟ الجواب: في تصوري ليس هناك أزمة في المناهج العلمية بشقيها الإختزالي والشمولي، فالأزمة وإن وجدت فهي في طريقة تطبيق أو استخدام المنهج العلمي – وليست في أصل المنهج في حد ذاته – في دراسة الظاهرة أو المادة المراد بحثها ودراستها المناسبة للمنهج العلمي الذي يليق بها. كما أن أزمة اسقاط المنهج المناسب لدراسة الظواهر المختلفة المناسبة له هو في الحقيقة يرتبط بنوع معين من العلوم التطبيقية وليست جميعها. فالأزمة في استخدام المنهج العلمي للعلوم التطبيقية تكمن خاصة في المنهج العلمي الذي يهتم بأبحاث علوم الحياة (Life Sciences) وفي مقدمتها العلوم الطبية الحيوية. لكن قبل الشروع في توصيف أزمة استخدام المنهج العلمي، دعنا هنا نتطرق إلى تعريف العلوم التطبييقية أولا. فالعلوم التطبيقية هي العلوم التي تهتم بتحويل الافكار والمعارف الى تطبيقات يستفيد منها بني البشر، أي بمعني اكساب المعرفة أو جانب منها الطبيعة المادية التي من خلالها تتحول الاختراعات والابتكارات الى صور مختلفة في مجال التقنيات المختلفة، كالسيارة، والطائرة، الهاتف، والحاسوب، وآلات بناء المنازل، والطرق، والمستشفيات، والاجهزة التشخيصية والادوية العلاجية وغيرها من الأمور التي لا يتسع المقام هنا لذكرها. كل هذه الاشياء المادية الملموسة كانت عبارة عن علوم وافكار ومعارف تم ترجمتها على أرض الواقع من خلال مناهج البحث والتطوير لتصبح قوالب مادية ملموسة يستفيد منها الناس في شتى مجالات حياتهم اليومية. فالعلوم التطبيقية تشمل على سبيل المثال لا الحصر، العلوم الهندسية، وعلوم الكيمياء، والرياضيات، والفيزياء بفروعها المختلفة بالإضافة إلى العلوم الصحية/الطبية التي تستلهم الأفكار من خلال تطبيق علوم الحياة (Life Sciences) في المعرفة والاختراعات الطبيّة. وقد نشأ عن علوم الحياة ما يعرف حديثا بالمحاكاة الحيوية(Biomimetics or biomimicry) وهي عبارة عن منهج علمي يهتم بنمذجة(Modeling) عناصر وأنظمة متطورة تحاكي طبيعة المخلوقات بغرض حل المشكلات البشرية المعقدة. ومن أشهر الأمثلة المعروفة عن المحاكاة الحيوية هو ما يعرف اليوم لدينا بالمجسّات (sensors) والحواس التي تطبق في الذكاء الاصطناعي والريبوتات. وهذه المجسّات في الحقيقة مستلهمة من الحواس الخمس المعروفة لدينا كالتذوق واللمس والسمع والبصر وغيرها. والجدير ذكره هنا أن العلوم الصحية فروعها كثيرة ومتداخلة ومن أمثلتها علم الأحياء الدقيق، وعلم الأوبئة، وعلم الجينوم الطبي الذي بدأ مع بداية عام 1990 واعلن الانتهاء منه شهر ابريل 2003، تحت مسمى مشروع الجينوم البشريGenome Project) (Human وهو مشروع فك الشفرات الجينية (الخارطة الجينية) للإنسان والتعرف على عدد الجينات داخل الخلية البشرية. ويعتبر مشروع الجينوم البشري أكبر مشروع حيوي في تاريخ البشرية الحديث، نتج عنه بروز مجالات وتخصصات علمية جديدة لم تعرف من قبل مثل البنوك الحيوية (Biobanks)، والمعلوماتية الحيوية(Bioinformatics) ، وعلم العينات(Biospecimen Science) ، وعلم البيانات الضخمة (Omics and big data science)، كما أطلقت برامج وتحالفات ومجموعات علمية بحثية كبيرة عابرة للحدود الجغرافية للدول المتقدمة هدفها دراسة العديد من الأمراض المعقدة التي تحصد أرواح الناس، وذلك بدراسة الظواهر الصحية والأمراض المختلفة بشقيها المعدي (الساري) وغير المعدي (الأمراض المعقدة).
هذا باختصار تعريف بسيط للعلوم التطبيقية. السؤال: إذا أين يكمن الخلل المنهجي؟ في تصوري كثير من طلبة الدراسات العليا والباحثين والخبراء والعلماء لم يفرقوا، أو دعنا نقل انه لم تتضح الرؤية لهم بعد في التفريق بين هذه المناهج المعمول بها في حقول المعرفة اليوم، وبالتالي أشكلت عليهم كيفية أو آلية الاستعانة بها واستخدامها ومن ثم الاستفادة منها على أرض الواقع. دعونا نقف هنا ونفصل قليلا – مستعينين بتطبيق المنهج الإختزالي- لنتعرف أكثر عما يجب أن يلتفت إليه الباحث في حقول المعرفة. القضايا أو المواد المطروحة للبحث والتفكير في دروب العلم والمعرفة والكون بأجمعه تندرج في رأيي المتواضع تحت أربعة أقسام: المادة الحية والمادة غير الحية، وكل منهما يتفرع إلى فرعين آخرين: ساكن ومتحرك. إذا الانماط الناتجة عن هذا التقسيم هي: مادة حية ساكنة، مادة حية متحركة، مادة غير حية (جامدة) ساكنة، ومادة غير حية متحركة. إذا بإدخال عنصري الحركة والسكون على الحي والميت تتكون هذه الأقسام الأربعة. هنا إذا دققنا النظر أكثر فسنجد ان احتمالية وجود مادة حية غير متحركة هو في حكم المستحيل، أي لا توجد مادة حية غير متحركة (ساكنة) لكن استخدمت هنا في التقسيم مجازا. بعد هذا التقسيم المبسط يجب ان نقر بحقيقة هامة وهي نسبية ثنائية السكون والحركة، بمعني انه لا يمكننا الحكم على جسم بأنه ساكن أو متحرك بشكل مطلق. يجب علينا أن نحدد سكونة وحركته بالنسبة لنقطة محددة. فالسكون يعرف على انه: عدم تغير موضع جسم ما بالنسبة لنقطة محددة بمرور الزمن، والحركة تعرف على انها: تغير موضع جسم ما بالنسبة لنقطة محددة بمرور الزمن. في تصوري أن المنهج الإختزالي يتلائم أكثر مع دراسة الظواهر الساكنة غير المتحركة بشقيها الحي (المجازي) وغير الحي، بينما المنهج الشمولي يتناسب مع دراسة الظواهر المتحركة الحية (ذات الروح) و غير الحية مثل (حركة الكون من كواكب ونجوم وعلوم فضاء وغيرها). في المحصلة، الظواهر الساكنة تميل إلى البساطة (simplicity) بينما الظواهر المتحركة تميل إلى التعقيد .(complexity) وما يجب أن يلفت إليه النظر بعناية هنا أن بيولوجيا الإنسان تجمع بين التعقيد والبساطة في أبهى صورة يقف الباحث والمتأمل مذهولا أمامها. فالتعقيد (complexity) البيولوجي للإنسان يكمن في الشبكات المتداخلة من المادة الطينية المخلوق منها الإنسان المتمثلة في الحمض النووي ومركباته الجينية المنتجة للبروتينات وغيرها من العناصر الخلوية المختلفة المتواصلة مع بعضها البعض في شبكات تواصل معقدة متفاعلة ومترابطه مع العنصر الزمني في تناغم دقيق وبديع لينتج عنها بناء الخلايا والانسجة والأعضاء والجسم التشريحي المتكامل لنؤمن بقوله سبحانه وتعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)، وقوله تعالى تعالى: ( فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَٰمَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَٰهُ خَلْقًا ءَاخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَٰلِقِينَ). والبساطة (simplicity) تكمن في سهولة استعمال واستخدام الإنسان (User-friendly) لهذا المركب المعقد في النمو من أكل وشرب وتنفس وتعلم وتذكر وتواصل وتفاعل مع الكون المحيط به. وعلى الرغم من هذا الخلق البديع المعجز، فالإنسان المخلوق العاقل -للأسف- لم يقدر الله حق قدره (مَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ). وبالعودة إلى السؤال: أين الخلل؟ نجيب و نقول: أن الخلل يكمن في خلط المناهج العلمية المذكورة اعلاه وضرب بعضها ببعض لفهم الظواهر الحية وغير الحية. وعلى الرغم من ذلك، بلا شك ان هناك تقدم بشري هائل غير مسبوق في حقول المعرفة والعلوم التطبيقية المنعكس في الاختراعات والتقدم التقني الهائل. لكن هذا التقدم الهائل غير المسبوق يتواجد أو يلاحظ فقط في القطاعات والمجالات غير الحية أي بمعني في كل ما هو غير حي (non-living)، بشقيه الساكن و المتحرك مثل التقدم الهائل في الاتصالات والمواصلات والبناء والطرق وصناعة الحواسيب والهواتف النقالة، والسفن والطائرات وغيرها. وفي المقابل هناك فشل واضح وجلي ومرئي للعيان في كل ماهو مرتبط بدراسة وفهم كنه الكائنات الحية (living organisms) ذات الروح. فالأمراض المنتشرة التي تصيب الإنسان والحيوان والنبات على سبيل المثال ذات الاسباب المتعددة لم يتم علاجها والقضاء عليها بعد. فمنظومة الرعاية الصحية في العالم المتمثلة في المستشفيات المركزية (الحكومية والخاصة)، وشركات الأدوية وشركات التقنيات الحيوية عجزت جميعها في القضاء على الأمراض، وخصوصا الأمراض المزمنة (غير السارية)، كما نلحظ اليوم عجزها الواضح أيضا في مكافحة جائحة كورونا. فلم يتم تسجيل القضاء على مرض واحد فقط حتى يومنا هذا. بل العكس هو الصحيح، فأغلب تقارير منظمات الصحة العالمية تشير الى زيادة مضطردة في الأمراض المزمنة بالعموم، ولم يتم الى الآن القضاء عليها أو التعامل معها بمهنية وحرفية بالغة. والسبب في تصوري هو الخلل الكامن في ملائمة استخدام وتطبيق المنهج العلمي لدراسة العلوم الصحية/الطبية، فالمنهج الغالب هنا هو استخدام المنهج الاختزالي الذي غالبا ما يتلائم مع تشخيص الأمراض (Diagnosis) وضعف أو عدم مزاوجته مع المنهج الشمولي، الذي يتناسب مع العلاج (Treatment) وبهذا نخلص ونقول بأن المنهج الإختزالي يناسب تشخيص الأمراض بينما المنهج الشمولي يناسب العلاج بالإضافة إلى أهميته القصوى في تعزيز مفهوم الصحة والعافية، وذلك من خلال العمل على تضيق انتشار الأمراض وحصرها، ومن ثم يمكن الوصول الى نسب معقولة من منع حدوث الأمراض وبالتالي تعزيز الصحة والعافية للأفراد والمجتمات.
-
هل يمكنك الاستدلال على ذلك من خلال تخصصك؟
-
-
- بالطبع، فمنذ أن نشأت أنظمة الرعاية الصحية المعمول بها حاليا، تم تحسين العديد من جوانبها الهيكلية والتقنية والاقتصادية داخل معايير الرعاية الصحية الأساسية لتعزيز فعاليتها ضد الأمراض الحادة. لقد أدت التحسينات الطبية والتقنية المتتالية كأدوات قوية، للفهم الجزيئي الدقيق للأمراض ومكافحتها. فأصبحت ممارسة الطب، بعد ذلك، تعتمد أساسا على علوم المختبرات والتقنية المتقدمة. ونتيجة للتقدم العلمي السريع، تشعب المجال الطبي إلى المزيد من التخصصات الطبية الرئيسية والفرعية. فمنذ منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، قفز عدد التخصصات الطبية الفرعية من 40 تخصص إلى أكثر من 120 تخصص معتمد ومرخّص من الجهات الطبية العالمية، ومن المتوقع أيضا أن تنشأ تخصصات طبية أخرى معتمدة على التقنية. وبهذا تتطلب هذه “التخصصات الدقيقة” خبرة كبيرة وتقنيات متخصصة وبرامج تعليمية متقدمة، وكوادر طبية مدربة تدريباً عالياً. وبناء عليه، ومع تزايد التخصصات الطبية المعتمدة المتنوعة، أصبح التنسيق بين التخصصات الفرعية أكثر صعوبة. و بهذا، أصبح تعقيد أنظمة الرعاية الصحية مرهقًا عند محاولة تسخير كل تخصص طبي فرعي فردي لصياغة تدخلات طبية شاملة تناسب المريض ككل. فأدى الاعتماد الشديد على النهج المركزي الاختزالي في التصميم إلى اعطاب الأنظمة وتعقدها الشديد للغاية، فأصبحت هذه الأنظمة مكلفة للغاية لكي تعمل بصورة صحيحة وفاعلة في حين فشلت في تحقيق النتائج المرجوة منها. فنحن نعمل للحصول على المزيد من التحليلات على أمل أن يكون هناك علاجا للشيخوخة أو السمنة في مكان ما على مستوى بعض الجينات أو الجزيئات الخلوية. وبنوايا حسنة، نتابع هذا الحلم بمليارات الدولارات، بينما نتغافل ونتعامى عن الشبكات الأفقية واتصالاتها البينية مع البيئة الشاملة التي تتواجد فيها صحة الإنسان وعافيته. فالمنهج المركزي الاختزالي لا يتطور أبداً ويبدأ يتآكل في مواجهة التعقيد الحيوي للكائن الحي، لذا لا يمكن استخدامه هو وحده فقط والاعتماد عليه في حل المشاكل الصحية المعقدة. فتقارير منظمة الصحة العالمية تقدر أن ما بين 20 إلى 40٪ من إجمالي الإنفاق الصحي يضيع هدرا بسبب عدم كفاءة الأنظمة الصحية نتيجة لأسباب عديدة منها – على سبيل المثال لا الحصر – الاستخدام غير العقلاني للأدوية، والإفراط في استخدام خدمات التشخيص والمعدات الطبية، و كذلك الدخول غير المناسب إلى المستشفيات والإقامات الطويلة فيها. ففي الولايات المتحدة الأمريكية، تشير التقديرات إلى أن 30٪ من جميع الاختبارات والعلاجات غير ضرورية. لذا تعتبر تجارة العقاقير وصناعة الأدوية وفحوصات المختبرات التشخيصية المختلفة ـأكثر ربحية من التحدث عن الوقاية من الأمراض. كما تشير الدراسات الرصينة الصادمة ان ثالث سبب للوفيات في أمريكا (بعد أمراض القلب والسرطان) هو نتيجة للأخطاء الطبية داخل أنظمة الرعاية الصحية. وتأكيدا على ذلك، ففي نظام الرعايةالصحي بكندا يصاب شخص تقريبا من كل 18 شخص يعالج في المستشفيات بعاهة مستدامة أو وفاة نتيجة للأخطاء الطبية، مما دعت هذه الأرقام المفزعة إلى بروز حملات توعوية كثيرة تنادي وتؤكد على الإختيار الحكيم في طرق العلاج بالإضافة للإهتمام بمسألة جسر الهوة أو الفجوة الكبيرة لتحقيق الجودة (Bridging the quality chasm) في أنظمة الرعاية الصحية. والسؤال الجوهري الذي يطرح نفسه الآن هو: هل مكافحة الأمراض التي تصيب الناس أو استعادة صحتهم وتعزيزها يحتاج هذا الكم الهائل من المتوالية المتوالدة غير المتناهية من التخصصات الطبية المختلفة؟ وهذه التكاليف المالية الباهضة؟ لتتحول الرعاية الصحية حاليا إلى أكبر صناعة وأكثرها تعقيدًا على كوكب الأرض، أم علينا أن نفكر في ايجاد نهج آخر بديل أقل تكلفة يمكن من خلاله تعزيز الصحة والعافية ومنع انتشار الأمراض. سؤال مطروح يحتاج إلى إجابة!!
-
-
ماهو المنهج البديل في نظرك؟
-
-
- إلى ان يتم التوسع في المعرفة وابتكار منهاهج علمية بديلة فاعلة وتحديدا في تخصصات العلوم التطبيقية في علوم الحياة، إلى ذلك الحين فلكل حادثة حديث. أما الآن ففي تصوري القضية ليست قضية ما هو البديل؟ القضية تكمن في فن ادارة المناهج العلمية واسقاطها على الحقل العلمي البحثي المناسب لها. ومن ثمة إخضاعها لتقييم علمي موضوعي. فكما اسلفنا سابقا بأن المنهج الاختزالي يتناسب مع دراسة الظواهر غير الحية الساكنة (الماء، التربة، الهواء) وغيرها، بينما المنهج الكلي الشمولي يتناسب مع دراسة الكائنات الحية والظواهر المتحركة، ومنها الانسان على سبيل المثال، وبالتحديد في حقل العلوم الصحية، وهذا الكلام او الاستنتاج مهم جدا في اعادة تموضع المنهج العلمي المناسب لدراسة الظاهرة المناسبه له في الوقت الزمني المناسب له أيضا، وهذه التناسبيات في المنهج والظاهرة والزمن تحتاج إلى تفكير عميق ومعرفة رصينة وحكمة بالغة. هذا الشرح يمكن ان يؤخذ على عموميته دون الدخول في التفاصيل. ولكن عند التفصيل تأتي هنا المزاوجة بين المنهجين (الاختزالي ـ الشمولي) لدراسة التفاعل اليومي بين كل ما هو حي (living) وما هو غير حي (non–living) ، وما هو ساكن (Static) وما هو متحرك (Dynamic)مع الأخذ في الإعتبار عامل المكان والزمان لكل ظاهرة يراد دراستها. إذا المشكلة القائمة ليست في غياب المنهج العلمي، المشكلة تكمن في كيفية استخدام المنهج العلمي الاستخدام الأمثل. بمعنى استخدام المنهج العلمي المناسب لدراسة الظاهرة المناسبة في الوقت المناسب، وهذا يتطلب معرفة وحكمة الباحثين في الحقول العلمية المختلفة.
-
-
البعض يتحدث عن التكامل المعرفي وصعوبة الحديث عن تخصص بالمعنى المطلق الموضوعي والمحايد الذي افترضه فلاسفة الحداثة هل تؤيد هذا الرأي؟
-
-
- بصراحة انا اميل لرأي “هذا البعض” الميّال نحو التكامل المعرفي، وذلك لصعوبة – ان لم تكن استحالة – تفتيت المعرفة وفصل العلوم بعضها عن بعض. حتى اذا سلّمنا “بالتخصص المطلق” في اي حقل من حقول العلم والمعرفة، فهذا التخصص المعرفي خاضع لقوله تعالى “وإنا لموسعون”، “وفوق كل ذي علم عليم”، أي بمعني متوالية الشافعي – رحمه الله – المشهورة “وكلما ازددت علما زادني علما بجهلي”. كما يجب ان ننوه هنا إلى ان أصحاب المنهج الاختزالي ينزعون نحو التخصص المطلق المحايد، بينما اصحاب المنهج الشمولي بالتأكيد ينزعون نحو الإقرار بالتكامل المعرفي واستحالة الفصل بين العلوم والمعارف. ومع هذا يجب ان نوازن بين الفكرتين أو الرأيين. ففي العموم والمطلق “المعرفة متكاملة”، ولكن في الاستفادة من هذه المعرفة والاستعانة بها في ظاهرة الاستخلاف واعمار الأرض يجب ان يعتمد التخصص العلمي. أي بمعنى، في الجانب النظري “المعرفة متكاملة” وفي الجانب العملي “المعرفة مجزأة”. هذا والله اعلم.
-
-
ارتبط العلم الان بصناعة السياسات لذا يصعب الفصل بين المال والسلطة والمعرفة هل لاحظت ذلك خلال مسيرتك؟
-
-
- بكل تأكيد، وهذه الملاحطة لا تخطأها العين خصوصا في عالمنا المعاصر. فرسم السياسات المسقبلية والتخطيط الاستراتيجي لا يتم إلا من خلال العلم والمعرفة، وسابقا كانت المجتمعات تقاد من خلال العلم والمعرفة، تتبعها السلطة (صانعة القرار) ومن ثم المال (لتنزيل المعرفة على ارض الواقع)،، أما في وقتنا الحاضر، ونظرا لتغول النظرة المادية الرأسمالية الجارحة، وانتشار ظاهرة التسليع ((Commodification لكل شئ تقريبا. حتى المعرفة ذاتها طالها التسليع، وصارت خاضعة لمصطلح السوق، فأصبح المال اقوى تأثيرا من المعرفة، وفي بعض الاحيان أقوى حتى من السلطة، واذا ما تزاوج المال مع السلطة، فهنا غالبا ما تحدث الطامة، وتغيب وتنزوي المعرفة الحقة لتحل محلها المعرفة المزيفة الهشة المغموسة في مصطلح “السوق” ذات المصالح المادية الآنية الضيقة. وغالبا ما تكون على حساب القيم والاخلاق والأهداف الإستراتيجية النهضوية للمجتمعات. وبالضروة وبناء على ما سبق، سينتهي أو سيؤدي هذا الارتباط النكد غير الصحي بين المال والسلطة والمعرفة بالمجتعمات إلى التخلف والانزواء، ومن ثم الأفول والاندثار.
-
-
ماهي الطريقة المثلى لاكتساب المعرفة دون التأثر بكل هذه السياقات ؟
-
-
- الطريقة المثلى تكمن في الاستعانة بالله سبحانه وتعالى أولا ثم باعتماد التربية الصحيحة للأجيال الناشئة وترسيخ القيم والأخلاق الحميدة لديهم (أدب الضمير) ، مع نشر العدل والقسط والمساواة بين الناس. يجب ان يدمج العلم مع التربية والاخلاق. لا ينبغي الفصل بينهما في مراحل التعليم والمعرفة المختلفة. كما يجب ان تمتد الظواهرالاخلاقية الحسنة والتربوية لتطال سوق العمل بمختلف دروبه وتشعابته الاقتصادية والسياسية والقانونية والاجتماعية والترفيهيه، بمعنى ان تتشابك الأخلاق وتختلط القيم بجميع دروب الحياة الدنيا، وخاصة العلوم والمعرفة .
-
-
هل تجد انك قدً وصلت لتأثير مباشر يفيد الناس وحياتهم؟
-
-
- بالتأكيد لا. الـتأثير المباشر في الناس يحتاج إلى جهد مؤسسي جبار يدار بحكمة. ليست من السهولة بمكان ان يستطيع الفرد مهما أوتي من علم ومعرفة ان يؤثر في الناس تأثيرا دائما او طويل الأمد. ومع هذا، يمكن للفرد ان يؤثر تأثيرا مباشرا لكن هذا التأثير غالبا ما يكون تأثيرا لحظيا سرعان ما يتلاشى تحت مطرقة الضغوط الحياة اليومية المعقدة. كما أن طبيعة عملي هو البحث العلمي في مجال الاورام والجينوم الطبي، وهذا مجال اكاديمي فضاءه المراكز البحثية والمعامل والمختبرات الطبية المسلحة بالتقنيات المتقدمة كالبنوك الحيوية وقواعد البيانات الضخمة، والعينات والأنسجة الحيوية التي يتم سبر غورها وفهم سياقاتها المختلفة المؤثرة على الصحة والمرض باعتماد ادوات تحليل لوغارثمي عالي الآداء فيما يعرف اليوم بتخصص المعلوماتية الحيوية. إذا طبيعة عملي تحتم علي التواجد في الفضاء الأكاديمي، وليس الفضاء المجتمعي، و مع هذا لا يعفيني أو يعفي أي باحث علمي اكاديمي من التواصل مع الناس، ويكون من أهداف، وتأثير، ومؤشرات أداء مخرجات بحوثه العلمية ما يفيد االأفراد والمجتمعات سواء بسواء. وهنا تبرز الحاجة الماسة لوضع آليات لتعزيز مساهمة البحث العلمي ومخرجاته في خدمة المجتمعات والإنسانية جمعاء.
-
-
ماهو المنهج الطبي البديل في نظرك؟
-
- في الحقيقة الإجابة عن هذا السؤال ليست سهلة. الإجابة تحتاج منا أولا اعادة تفكيك وتركيب المنهج الطبي المعمول به حاليا في المدارس الغربية. المنهج الطبي الذي توارثناه منذ حوالي قرنين من الزمان تقريبا. عملية الفك والتركيب يجب ان تطال الفكرة والمنهج والتطبيق دون استثناء. فمناهج الطب الحديثة التي أسسها أبراهام فلكسنر، التي اشار إليها في تقريره المشهور المنشور عام 1910 (Abraham Flexner Report)، والتي تدرس حاليا في اغلب كليات الطب في الدول الغربية تنتهي غالبا بطلبة الطب بممارسة مهنة الطب داخل أنظمة الرعاية الصحية المختلفة. ففي الواقع، تعتبر مناهج الطب التي تدرس الآن مغموسة ومنقوعة بصورة غير مسبوقة في المرض بدلا من الصحة. فطالب الطب منذ انطلاقه في مسيرته الاكاديمية وهو يدرس ويتعلم مفهموم المرض وأسبابه ولا يدرس مفهوم الصحة والعافية وكيفية تعزيزها. المنهج الطبي الحالي يسلط الضوء بشدة على المرض لا العافية. ونتيجة لذلك فإن جوهر انظمة الرعاية الصحية الحالية هو النهج التفاعلي، بمعني ان النظام الصحي يظل ينتظر ويترقب بأن يصاب الفرد بمرض ما بعد ظهور اعراض مرضية حاده عليه لكي يقوم بعدها بالتفاعل والتدخل لإجراء رد فعل تصحيحي. المستفيد من هذا النهج التفاعلي، في الحقيقة، هم الأفراد المرضى الذين يعانون من الحالات المرضية الحادة، كالأمراض السارية المعدية أو الحوادث والاصابات التي تتطلب تدخلا جراحيا، بينما لا يستفيد الأفراد الأصحاء كثيرا من هذا النهج في تعزيز صحتهم وعافيتهم. فبسبب ان النموذج يهتم برعاية الأمراض فقط. لذا، يمكن وصفه، على اي حال، بأنه نظام “رعاية المرض” وليس “رعاية الصحة”. وبالتالي تقتصر مهمة الأنظمة الصحية المعمول بها حاليا على إدارة المرض وتخفيف الأعراض المرضية (Palliative treatment)، بدلاً من الحفاظ على الصحة وتعزيزها. وهذه المنهجية الخاطئة المغموسة في مطاردة الأمراض بدلا من تعزيز الصحة والعافية التي تبدأ للأسف منذ التحاق طلبة الطب بكليات الطب، مرورا بممارسة تخصصاتهم الطبية المختلفة داخل أسوار وصوامع انظمة الرعاية الصحية (أنظمة رعاية المرض)، وانتهاء بدعم المشاريع البحثية في مجال البحوث الطبية الحيوية. وعلى ذكر المشاريع البحثية في مجال البحوث الطبية، فالصورة تبدو صادمة جدا، فعالميا وبالتحديد في الدول المتقدمة فإن ما نسبته 97% من قيمة الأموال المرصودة في مجال ابحاث العلوم الطبية الحيوية تصرف، للأسف، نحو دراسة الأمراض وتشخيصها والبحث عن أسبابها، واحتمالية علاجها والباقي الضئيل من الدعم المادي يصرف لدعم البحوث التي تهتم بتعزيز الصحة والمحافظه عليها. هذه المنهجية الخاطئة أدت إلى فشل الدول المتقدمة والمنظمات الصحية العالمية في القضاء على الأمراض بل وتزايدها داخل المجتمعات. إذا الخلل يكمن في المنهج الطبي المعتمد حاليا. ففي الفقه الإسلامي، على سبيل المثال، معروف لدينا ان “الأصل في الدين الإباحة”، أي بمعنى كل الطعام والشراب والمعاملات مباح لنا ما لم يأت نص من القرآن أو السنة يقيده. هذه المساحة الواسعة من الإباحات تستقيم معها حياة الناس كي يستعمروا الأرض ويستخلفوها. والعكس بالضرورة لا تستقيم معه الحياة، أي إذا افترضنا ان الأصل في الدين هو التقييد (الحرام)، والمباح عارض. كذلك في مجال الصحة والمرض، و قياسا على ما سبق فيمكننا القول بأن الأصل في الأفراد هو “العافية”، والمرض هو العارض أو الإستثناء. للأسف، عكست مناهجنا الطبية الاكاديمية التي تدرس لطلبة الطب والتمريض في كليات الطب الحالية، عكست الحالة وجعلت من المرض هو “الأصل” والعافية هي “الإستثناء”. فتحولت المناهج الطبية وانظمة الرعاية الصحية إلى تخصصات طبية واخرى فرعية متعددة منشغلة بمطاردة الأمراض بدلا من تعزيز الصحة والعافية. وفي تصوري أن تعزيز الصحة والعافية أكثر نجاعة وجدوى وأقل تكلفة من مطاردة الخطوب والمنايا. لقد أشارت بعض الدراسات العلمية الحديثة إلى ان أهم محددات صحة الفرد وعافيته هي خمس محددات تم اجمالها في التالي: نمط وسلوك حياة الفرد اليومي، وتشكل ما نسبته ( (38%من صحته، وكذلك علاقاته وظروفه الاجتماعية وتشكل ما نسبته (23%)، متبوعا ببصمته الوراثية البيولوجية (21%)، ثم يأتي عامل البيئة المحيطه به، وتشكل ما نسبته (7%) من صحته وعافيته سواء بسواء، بينما تعتبر خدمات أنظمة الرعاية الصحية المتنوعة المعمول بها عالميا (المستشفيات، العيادات الطبية، المختبرات الطبية، الصيدليات) هي المحدد ذي التأثير القليل في تحديد الصحة العامة للإنسان، و تشكل ما نسبته ( 11%) من صحته وعافيته. بمعنى آخر، ان ما نسبته 89% من صحة الإنسان وعافيته يتم تحديدها او اكتسابها من خارج أنظمة الرعاية الصحية المتنوعة المذكورة أعلاه. هذه النتيجة الصادمة يجب ان تلفت انتباهنا إلى أن الاستثمار في صحة الانسان وعافيته يجب ان يصرف وبقوة نحو تحسين نمط حياة الفرد (السلوك اليومي)، بالإضافة إلى تحسين علاقاته الاجتماعية، مع ايجاد بيئة صديقة له دون اهمال تحسين قطاع الرعاية الصحية لتقديم خدمات أفضل تهتم غالبا بممارسة الطب التفاعلي (Reactive medicine) لعلاج الأمراض السارية أو الحوادث التي تتطلب تدخلا جراحيا. وبما أن البصمة الوراثية لايمكن التحكم او العبث بها، وبما أن الضلع الثالث (نمط الحياة)، هو الضلع الأكثر تحكما فيه، مع تحكم أقل في ضلع البيئة، فيجب ان تصرف وتستثمر جهود البحث العلمي فيهماـ أي ضلعي البيئة ونمط الحياة، وذلك بالعمل على ايجاد نمط حياة نموذجي يمكن الاحتذاء به للتخفيف من التوتر الضاغط على الشبكة المعقدة للجينوم الناتج من الانماط السلوكية الحياتية الخاطئة، أو العلاقات الإجتماعية المتوترة، أو بيئات غير صحية قد تسبب في اضطراب شبكات الجينوم، ومن ثم انحرافها نحو تمظهر الأمراض المزمنة المختلفة.
ختاما، يجب أن يعاد هندسة أجندة العلماء والأطباء والباحثين في مجال الطب الحيوي وتطوير المناهج الطبية وأن تكون اجندتهم الحصرية من “رؤية ورسالة وأهداف” في مجال ابحاث علوم الطبي الحيوي هي الاستثمار في تعزيز الصحة والعافية (Salutogenesis) للأفراد والمجتمعات بدلاً من الإنغماس في مطاردة الأمراض ومحاربتها (Pathogenesis). فمعركتنا مع الأمراض تبدو على المدى المنظور والبعيد معركة خاسرة. فالجهود البشرية العالمية يجب ان توجه وبقوة نحو منهجية تعزيز صحة وعافية الأفراد والمجتمات معا. فالمنهج الطبي البديل يجب ان يتحرك وينطلق في هذا الإتجاه.